في عطلة نهاية الأسبوع بمدينة بيركلي بولاية كاليفورنيا، اجتمع نخبة من كبار علماء الرياضيات في العالم، ضمن تجربة فريدة تهدف إلى اختبار قدرات أحدث نماذج الذكاء الاصطناعي على حل مسائل رياضية جديدة كلياً، بعضها يُصنّف ضمن أصعب التحديات المعروفة في المجال الأكاديمي. والنتائج؟ مفاجآت غير متوقعة أثارت الدهشة، بل والقلق أيضاً.
يانغ-هوي: «شعرنا برهبة جماعية من أداء الآلة»
لم يتردد يانغ-هوي هي، الزميل في معهد لندن للعلوم الرياضية وأستاذ الهندسة الجبرية ونظرية الأوتار بجامعة أوكسفورد، في قبول الدعوة، مدفوعة التكاليف، للمشاركة في الحدث. وقد وصف التجربة بأنها «فرصة نادرة لمشاهدة لحظة تاريخية محتملة». وأضاف: «لا أقول إننا شعرنا بتهديد وجودي، لكن كان هناك شعور عام بالرهبة».
الأكثر إثارة أن يانغ-هوي، رغم هذه الرهبة، عاد إلى بلاده محققاً مكسباً مالياً، بعد أن تمكن من تقديم مسألة رياضية أربكت النماذج الذكية ولم تتمكن من حلها.
مبادرة “فرونتير ماث”: تمويل من OpenAI وتجربة غير مسبوقة
نُظم الحدث بواسطة مؤسسة إيبوك AI غير الربحية، ضمن مبادرة باسم Frontier Math، والتي انطلقت في خريف 2024. وتهدف المبادرة إلى قياس مدى تقدم الذكاء الاصطناعي في حل المسائل الرياضية، عبر حوافز مالية لعشرات من الأكاديميين المحترفين لتقديم مسائل أصلية تتراوح في صعوبتها من مستوى البكالوريوس إلى مستوى الأبحاث المتقدمة.
تم جمع المسائل عبر تطبيق المراسلة المشفر «سيجنال»، لتجنب تسربها إلى الإنترنت، مما قد يمنح بعض النماذج الأفضلية حال تدريبها مسبقًا على هذه البيانات.
نموذج «O4 Mini» يثير الدهشة والقلق
واحدة من أبرز النتائج جاءت من أداء نموذج يُعرف باسم O4 Mini، طورته شركة OpenAI، والذي أظهر قدرة مبهرة على حل مسائل عالية التعقيد خلال دقائق، وكتب نصوصاً رياضية احترافية، بل وقام بعمليات بحث شاملة قادته إلى أوراق علمية نادرة ومراجع متقدمة.
العالم كين أونو من جامعة فيرجينيا ومستشار لدى إيبوك وصف هذه النتائج بأنها: «مخيفة».
من التحديات البسيطة إلى المستوى الرابع: هل نحن أمام تحول جذري؟
في أبريل الماضي، نشرت مجلة Scientific American تقريراً حول تمكن أحد نماذج OpenAI من حل نحو خُمس المسائل الرياضية التي قدمت له، لكنها كانت من مستويات أقل صعوبة. أما الآن، فالتحدي انتقل إلى المستوى الرابع، وهو مستوى يتطلب من نخبة الأكاديميين أسابيع أو حتى شهورًا لحله جماعيًا، ولا يمكن التعامل معه من خلال التخمين أو المعالجة brute force.
وبينما لم تُكشف بعد النتائج الكاملة لأداء النماذج في حل 50 مسألة من هذا المستوى، إلا أن التحسن المذهل مقارنة بعام 2022، حيث لم يكن “تشات جي بي تي” وقتها قادرًا حتى على إجراء عمليات قسمة بسيطة بدقة، يثير التساؤلات عن المستقبل.
جدل حول الشفافية.. وقلق من فقدان الأمل في حل بعض أعقد المسائل
الحدث لم يخل من الجدل، إذ اعترفت «إيبوك» في وقت لاحق بأنها فشلت في البداية في الإفصاح عن دعم مالي من OpenAI لمبادرة “فرونتير ماث”، مما أثار الشكوك حول حيادية الاختبارات، وسط مخاوف من أن تكون نماذج الشركة قد حصلت على أفضلية غير معلنة.
ورغم أن الذكاء الاصطناعي لم ينجح بعد في التعامل مع جميع المسائل شديدة التعقيد، إلا أن هناك مخاوف متزايدة من أن تطوره السريع قد يؤدي إلى تقليص عدد المهتمين بدراسة الرياضيات في المستقبل، وإغلاق أقسام أكاديمية، وحتى تقليص فرص فوز البشر بجوائز مرموقة مثل ميدالية فيلدز، أرقى الجوائز في عالم الرياضيات.
فرضية ريمان والمليون دولار.. هل يُسلب الحلم من البشر؟
تُعد فرضية ريمان واحدة من أبرز المعضلات الرياضية التي لم تُحل بعد، وتصل جائزة حلها إلى مليون دولار. وفي وقت سابق، كان هذا النوع من التحديات يرمز إلى قمة الطموح العلمي البشري، لكن اليوم، بدأ البعض يتساءل ما إذا كانت الآلات هي من ستنتصر في النهاية.
أكثر من مجرد أرقام.. رياضيات الروح والعقل
رغم التطبيقات العملية الهائلة للرياضيات – مثل استخدام الأعداد الأولية في التشفير – إلا أن جوهر الرياضيات يتجاوز ذلك، فهي تتعلق بمفاهيم عميقة مثل الصفر، واللانهاية، والأعداد التخيلية. ولذا فإن القلق بشأن تأثير الذكاء الاصطناعي على الإبداع الرياضي البشري ليس أمراً عبثياً.
ربما نعيش اليوم نقطة تحول فارقة في علاقة البشر بالرياضيات.. أو حتى في تعريف من يحق له أن يكون «عالماً رياضياً» في العصر القادم.




