شهد يوم افتتاح المتحف المصري الكبير تلاقحًا مثيرًا بين التراث القديم والتقنيات الحديثة، حيث لم يقتصر الحدث على الزعماء وكلمات رسمية وجولات داخل القاعات، بل امتد إلى العالم الرقمي. تزامنًا مع الافتتاح، اجتاح مستخدمو الإنترنت منصات التواصل لتوليد صور فنية تُعيد إحياء الزمن الفرعوني باستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي، فمزج الحاضر بالماضي في تجربة بصرية تفاعلية.
في هذا التقرير، نتناول محاور هذا التفاعل: من دور المتحف كمحفز ثقافي إلى ظهور أدوات الذكاء الاصطناعي التي أعادت رسم الوجوه الفرعونية، مرورًا بالتحديات والمآخذ، وأخيرًا إمكانيات المستقبل في هذا التقاطع بين الفن والحضارة والتقنية.
المتحف المصري الكبير: صرح حضاري يضع مصر في مقدمة المشهد الثقافي
- يُعد المتحف المصري الكبير (GEM) أكبر متحف في العالم مخصص لحضارة واحدة، ويضم أكثر من 100 ألف قطعة أثرية، بينها نحو 20 ألف قطعة تُعرض للمرة الأولى، في مساحة تبلغ نحو 500 ألف متر مربع.
- جاء الافتتاح تتويجًا لمسيرة طويلة من التخطيط والتنفيذ، انطلقت الفكرة في أوائل التسعينيات، وبدأ البناء فعليًّا منذ منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، مع تأخيرات عدة بسبب الأزمات والظروف السياسية والمالية.
- يُنظر للمتحف كمنصة ثقافية عالمية، تعزيزًا لدور مصر في الاستثمار في تراثها كركيزة للدبلوماسية الثقافية، وجذب للزوار، وتحفيز للاقتصاد المحلي والسياحة.
2. الذكاء الاصطناعي والتوليد الفني: كيف اجتاح الذكاء الرقمي الزمن الفرعوني؟
ظهور فلاتر وتصميمات “فرعونية” على منصات الصور
من أبرز التجليات في هذا السياق كان انتشار ما يُعرف بـ فلتر الفرعون AI، الذي يسمح للمستخدمين بتحويل صورهم الشخصية إلى نسخ مستوحاة من الأزياء والملامح الفرعونية. يستخدم بعض المهتمين أدوات مثل Google Gemini لتوليد مثل هذه الصور عبر أوامر نصية بسيطة مثل “اصنع لي صورة فرعونية ملك أو ملكة”.
هذا الاتجاه يتماهى مع رغبة الناس في الارتباط الرمزي بالتاريخ المصري العريق، خصوصًا في يوم افتتاح متحف يحمل إرثًا حضاريًا ضخمًا.
أدوات الذكاء الاصطناعي ونماذج التوليد
تُستخدم في هذه العملية نماذج التوليد البصري (Generative AI) التي تستند إلى الشبكات العصبية المدربة على مجموعات ضخمة من الصور والأنماط. هذه النماذج قادرة على إعادة تركيب عناصر فرعونية—الملابس، التيجان، الرموز، الخلفيات—في صورة “مُعاد صياغتها” بلمسات عصرية.
لكن مع هذا الإبداع تأتي تحديات: من دقة التفاصيل التاريخية إلى حقوق الملكية، ومن التشويش البصري إلى التحيز في تمثيل الأشكال (مثل تمثيل الوجوه والألوان). في دراسة حديثة بعنوان “Draw me a curator” تم تحليل كيف يُصوّر الذكاء الاصطناعي أمورًا مثل المحافظين على المتاحف بصورة نمطية غير دقيقة (قليل من النساء، تمثيل محدود للعرقيات).
التحول الرقمي يجذب جمهورًا جديدًا
ما يجذب الانتباه أن المتلقي لم يعد مستهلكًا سلبيًا؛ بل بات يساهم في خلق المشهد البصري بنفسه. هذه المشاركة الرقمية توسع رقعة التفاعل إلى ما وراء أسوار المتحف، وتحوّل الناس من مشاهِدين إلى مبدعين في لحظة.
تلاقي الواقع المادي والافتراضي: المتحف كمنصة للتجربة المركبة
في حفل الافتتاح، لم تكتف مصر بعرض القطع الأثرية في قاعات صامتة، بل استخدمت تقنيات العرض الرقمي، الإضاءات، العروض الجوية (الدرونز)، والعروض التعبيرية التي حوّلت الموقع إلى مسرح حضاري.
وفي الوقت نفسه، يوفّر المتحف إمكانيات ضخمة للتكامل مع الذكاء الاصطناعي في المستقبل:
- معارض تفاعلية تعتمد على الواقع المعزز (Augmented Reality) لعرض القطع في سياقاتها الأصلية.
- جولات افتراضية VR تتيح للمستخدمين تجربة التنقل داخل القاعات من أي مكان في العالم.
- أدوات ذكية للبحث والتفسير تعتمد على الذكاء الاصطناعي لشرح القطع الأثرية بلُغات متعددة.
- روابط بين الصور المولّدة على الإنترنت والقطع الحقيقية للزائرين، حيث يمكن أن يرفع الشخص صورته فرعونية ويُناقشها عبر شاشة في المتحف، أو يقارنها مع القطع الأصلية.
التحديات والاعتبارات في التقاطع بين الذكاء الاصطناعي والتراث
الدقة التاريخية والمصداقية
أحد أخطر التحديات هو أن النماذج قد تخلط بين عصور مختلفة أو تدمج رموزًا غير متوافقة، مما يولّد صورًا جميلة بصريًّا لكنها تفتقر إلى أصالة تاريخية.
الملكية الفكرية وحقوق الاستخدام
عند توليد صور باستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي، تبرز تساؤلات حول من يملك الحقوق: هل للمستخدم، أم لمزود الأداة، أم للمصور الأصلي (في حالة استخدام صورة كمدخل)؟
التحيز والتمثيل
كما ذُكر في الدراسة، يمكن أن تُنتج النماذج صورًا تنطوي على تحيزات في تمثيل الجنس أو العرق أو الملابس. من المهم أن تُصمَّم النماذج بعناية حتى تحترم التنوع والواقعية الثقافية.
خطر الاستهلاك السطحي للتاريخ
إذا اقتصر التفاعل على مجرد “فلتر فرعوني”، فقد يُختزل التاريخ إلى صورة جميلة دون فهم عميق للمعاني والرموز. لذلك، يجب ربط هذه التوليدات بأنشطة تعليمية وترفيهية داخل المتحف أو عبر المحتوى الرقمي المصاحب.
الآفاق المستقبلية
- يمكن أن تُستخدم الصور المولّدة ك أداة تعليمية في المدارس، تُعرّف التلاميذ بأسلوب ممتع على رموز الحضارة المصرية.
- المعارض الرقمية العالمية يمكنها دمج صور الجمهور المولّدة ضمن عروض فنية، في ما يُعرف بـ «المعرض التشاركي».
- تطوير نماذج توليدية مخصصة للتراث المصري، مدربة على بيانات دقيقة من المتحف، مما يرفع جودة الصور ويحافظ على الأصالة. في هذا السياق، ظهرت مؤخرًا مبادرات بحثية مثل EgMM-Corpus، وهو قاعدة بيانات متعددة الوسائط تغطي مفاهيم الثقافة المصرية (مع صور ونصوص) كمورد للذكاء البصري والمتعدد الوسائط.
- التعاون بين المتحف وشركات التكنولوجيا لإطلاق تطبيقات تُمكّن الزوار من “أن تكون فرعونيًّا” داخل القاعة، عبر تراكبات رقمية في كاميرا الهاتف.
الخاتمة
في أول نوفمبر 2025، لم يكن افتتاح المتحف المصري الكبير مجرد احتفال تقليدي للحضارة، بل نقطة انعطاف تُجسد كيف يُمكن أن تلتقي الذكاء البشري مع الذكاء الاصطناعي لابتكار تراث بصري مشترك. توليد الصور الفرعونية على شبكات الإنترنت ليس ترفًا، بل تعبيرًا رقميًا عن انتماء جماهيري للرؤية الحضارية، ورغبة في إحياء الماضي بطريقة جديدة.
لكن الطريق أمام هذا التلاقي لم يكن مفروشًا بالزهور: يتطلب العمل الدؤوب على المصداقية والدقة والتوازن بين الفن والتاريخ. إذا نجح المتحف والفن الرقمي في مخاطبة العقول والقلوب معًا، فقد يصبح الجيل القادم لا زائرًا فقط، بل مشاركًا في تجسيد ذاكرة مصر الرقمية.





